الساعة السابعة وعشر دقائق صباحاً ..
استيقظتُ اليوم من نومي مبكراً ..
فتحتُ نوافِذي جميعها ..
كي أصَافِح نسمات الفجر ..
وأتنفسُ نسماتها بعمق ..
نظرتُ إلى ملامحي في المرآة ..
تماماً مثل أمس لم يتغير شيء ..
أنا مثلما كنت !!
الحمد لله ..
بقي أن أتنفس رائحة القهوة الصباحية ..
أتنفسها ..
رائحتها تجعلني أشعر بأنني ما زلت ( أنا ) !!
نزلتُ إلى المقهى المقصي في ركن الشارع ..
والزمهرير يخرج من فم الصبح ..
وقطع الثلج تتناثر في الأفق ..
كنت أمشي وأنا أنظر نُتف الثلج قد أنهت رقصتها ..
وارتاحت بهدوء على أسطح المنازل وأغصان الأشجار ..
ولكن ذلك الهدوء لم يلبث أن قطعه صوت مواء القطة الرمادية ..
التي تنتظرني كل صباح لتضع على قدماي خيوط الياسمين ..
دخلتُ المقهى فحملت جريدتي الرماديه واتجهت الى دفئي المعتاد ..
هناك هو الدفئ على تلك الطاولة الخشبية في الزاوية ..
أحب أن أكون به وحيداً ..
جلست على الكرسي الخشبي ..
خلعتُ قبعتي ومعطفي وعلقته عليه ..
كنتُ أحدق إلى زجاج النافذة الذي اكتسى بزبد أنفاس مُرتاديه ..
منظره يؤرقني ..
همسات وتمتمات أثقل بها الحضور فراغ المقهى ..
جلستُ أتذكر بعض الصور ، التي لونت ذاكرتي .. أو لوثتها .. أم .. أم ؟؟
وبعد أن أنهيتُ حصتي من الحزن وراء تلك النافذة ..
صرت أشرب قهوتي بلا سكر ..
كي لا أتذكر ..
كنتُ أرتشف قهوتي بهدوء كما لو اني اقوم بواجب ممل ..
برود .. وقسمات شاردة ساكنه ..
هكذا أنا في كل صباح أجلس في ركني صامتا ..
انني اشتهي أن ألوذ بما لاذت به الفجر من السكون ..
أحتسي قهوتي وأستمتع بمراقبة الهواء الساخن الذي يحلق فوقه مشكلاً سحابة من اللاشيء ..
وأشعر بدفئه يغمر أوصالي دون حتى أن أرشف رشفتي الأولى ..
أغرق للحظات في التأمل ..
ويبقى المشهد صامتاً رغم كل الضجة التي تدور حولي ..
أطلق تنهيدة حارة أخرج بها كل مايجتاحني من مشاعر ..
أمسكه بكلتي يدي ..
تبدأ حرارته تتسرب إلى جسدي ..
رشفة صغيرة ..
حرارة تندفع عبر شراييني ..
تجتاح ماتبقى من مشاعر دفينة لم تخرج مع تنهيدتي ..
أعيد الفنجان مكانه ..
بعدها ..
ألتفت حولي..
وأعود للعالم الخارجي..
بابتسامة دافئة ..
سرها فنجان القهوة ..
مر ..
فنجان قهوتي المعتاد كان مراً ..
أمسكته ..
تأملته قليلاً..
وأكملت الشرب ..
لم أكن أرتشف هذه المرة ..
كنت أبتلعه ابتلاعاً..
وأحس بمرارة تكاد تقتلني ..
و كنت كلما أعاود الشرب منه أجده ازداد مرارة ..
لقد كنت أضيف له سكري الخاص ..
لكنه كان يزداد مرارة ..
غريب أمر هذه المقهى !!
الجميع يسر بما لديه للا أحد ..
والكل يشيحون وجوههم..
هم يكلمون المقاعد والطاولات والمشاجب ..
ويكلمون تلك النادلة الصماء ..
ولايجرؤ أحدهم على خطاب الآخرين ..
والغريب أيضا أن مايسره أحدهم يفشى للآخرين كما الماء إذا اختار الغرق في الرمل ..
أتأمل الطاولة في زاوية المقهى ..
مصنوعة من خشب , شكلها أقرب الى المربع ..
ويبدو أن صانعها قد شكلها وهو في حزن شديد ..
وهذا ما جعلها تبدو فريدة بين غيرها من طاولات المقهى ..
على طرفها بقعة زيتية غامقة بفعل الزمن ..
والذي حول أيضاً سطحها الى مساحة صغيرة لفناجين القهوة ورماد السجائر وذكريات عابرة كتبت عليها ..
وعليها أيضاً مزهرية صغيرة فيها بعض أزهار ذابلة ..
ومنفضة سجائر قديمة حملت عبر السنين آلاف التنهدات الحالمة أو الغاضبة أو المستسلمة ..
هي طاولة ككل الطاولات .. أميزها من صريرها الحزين عند تحريكها ..
وربما ميزها غيرها من بوح لحب مضى ..
أو دمعة حنين سقطت عليها بغتة ..
أو ربما من صفقة رابحة ، لتاجر لا يعرف سوى لغة الأرقام ..
بالنسبة لي ، فهذه الطاولة المسكينة ، والمصنوعة من حزن ..
تحمل في مساماتها – لو أصخينا السمع – آلاف القصص عن أشخاص غرباء وغيرهم عاشقين ..
وحيدين أو مغتربين أو عابري سبيل جلسوا معها دون أن يعيروها أدنى انتباه ..
في كل مرة أحاول المكوث طويلاً بقهوتي على هذه الطاولة ..
والأمر الغريب أن هذه المرة كان سواد قهوتي يشبهني تماما ..
رغم محاولاتي الدائمة أن أبتسم ..
أن أهزأ بالحزن ، لكنه يعود ويسكنني ..
يلفني سواد حالك ..
يملؤني ، ومهما حاولت تمزيقه ..
يقهرني كالموت ، فأعود وارتديه ..
أيُ صباحٍ هذا الذي أبدؤه بالسواد ؟؟
ألا يكفي سواد القهوة .!!
.
.
.
.
.