.
ذات يوم أبدى أحد الأشخاص ملاحظة للفيلسوف البارز " ويتجنشتاين " تساءل فيها : كيف كان الأوروبيون أغبياء في العصور الوسطى قبل عصر كوبرنيكوس ، إذ نظروا إلى السماء وظنوا بأن الشمس تدور حول الأرض . والشيء المؤكد أن قدرا متواضعا من الفطنة الفلكية كان كفيلا بأن ينبئهم بأن العكس هو الصحيح ، ويروى أن " ويتجنشتاين " أجاب بقوله : ..( أوافق ، بيد أنني أتساءل : ماذا يمكن أن تكون عليه الحال لو أن الشمس كانت بالفعل تدور حول الأرض ؟.) ( جيمس بيرك ، 1994 ، ص13 )
إن التفكير في الإجابة على تساؤل " ويتجنشتاين " يأخذنا إلى طريق واحد ، الطريق الذي كان يود أن نقف عنده مدهشين ! ما هو الفرق حين نعرف أن الشمس تدور حول الأرض ، أو أن الأرض تدور حول الشمس ؟ الجواب . أننا سنتعامل بنفس الحالة والطريقة مع تلك المعرفة المكتسبة . بمعنى آخر سنكيف نظام حياتنا بناء على تلك المعرفة ، نقطة جدل ، تعيدنا للسؤال الذي حير العلماء ، هل المعرفة ذاتية أم موضوعية ؟
نحن دائما نتلمس الوصول إلى تفسير شامل وواضح لحقيقة الظواهر من حولنا ، وأسلوب عملها ، ومن أجل تحقيق هذه النظرة الشاملة ، نستحدث نظريات للتفسير تسبغ على ظواهر الطبيعة هيكلا محددا لها ، إذ نصنف الطبيعة داخل نظام مترابط ، فيبدو لنا أنها تفعل ما نقول نحن أنها تفعله !
واليوم ، ونحن نعيش حضارتنا المعاصرة ، هذه الحضارة مبنية على تصورات مكتسبة من المعرفة التي وصلنا إليها ، والتي تؤثر في سلوكنا وأفكارنا في الحياة ، كما كانت المعرفة القديمة تؤثر في المفاهيم السابقة في أولئك الذين عاشوا معها في الماضي ، وها نحن ، أيضا ، مثلنا مثل من سبقونا في الزمان الماضي ، نستبعد الظواهر التي لا تتلاءم مع نظرتنا ومعرفتنا الجديدة ، لأنها في رأينا خطأ أو خرافة أو شيء عفا عليه الزمن ، ونقول كما قال أسلافنا ، إننا نعرف الحقيقة الأصلية !
إن حلول اليوم ، هي مشكلات الأمس ، وكذلك حلول اليوم ، هي مشكلات الغد ، وستظل المعرفة تكتشف بصور مختلفة ، وطرق متعددة ، وتبقى الحقيقة الثابتة أننا نكيف ظروفنا وحياتنا وفقا للمعرفة الجديدة ، هذا هو التصرف المشترك فيما يخص المعرفة بالنسبة للبشرية عموما . أما المعرفة في ذاتها ، سنظل في كل عصر تصبغ بصبغة الحقيقة والتطور ، حتى يأتي عصر آخر جديد ، ويصبغها بصبغة التخلف !
لو نلاحظ النمط السريع السائد في حياتنا اليوم ، وثورة الإنتاج والاستهلاك اليومي ، واستغلال كل موارد الطبيعة حتى المخلفات والفضلات ، وكذلك الوقت الذي أصبحت الثواني فيه ، تعني الشيء الكثير في هذا العصر ، في خلال ثواني يمكن إبادة العالم بأسره ، كمية الأسلحة النووية المنتشرة الآن ، كفيلة بالقيام بمهمة مثل هذه في عدد محدود من الثواني ، هذه الأنماط التي نعيشها اليوم هي نتاج لاكتشافاتنا المعرفية ، أو بالأحرى ما نعتقد أننا اكتشفناه ، فمعرفة سرعة النجوم من حولنا ، وحركة الكواكب ، ثم قياس سرعة الصوت وسرعة الضوء ، و المعلومات التي كشفت لنا أن الكون من حولنا ، يسير في صور متعددة ،من الدوران السريع والخاطف ، لم تكن هذه المعلومات لتجعلنا نبقى أسرى عادة المشي الرتيبة ، أو استخدام وسائل نقل بطيئة كالحمار أو الحصان ، وبالتالي أصبحنا نحاول أن ننسجم مع هذا الرتم السريع الذي تلقيه علينا المعلومات الكونية المحيطة والمكتشفة مؤخرا . وباتت اختراعاتنا تبحث عن الأكثر سرعة دائما ، وكأننا ( لو قدر لأحد من القدماء أن يرانا ) نهرب من أمر يلحق بنا ، أو نسعى في بحث عالمي جماعي عن كنز مفقود مجهول المكان !!
لقد أصبحت قيمة الوقت بالغة الأهمية ، فالإنسان الذي كان يعيش قبل الآلاف السنين – على سبيل المثال – لم يكن يشعر بثقل الوقت عند مرور الأيام بل الشهور في رحلة قافلة ما ، بين الشمال والجنوب ، لأن نسبة الوقت له آنذاك ، مرتبطة بفترات متباعدة ، مثل المناسبات الكبيرة خلال السنة ، أو بمواسم المطر ، أو مواسم تغير الطبيعة ، أما نحن ، وتلك الساعات التي قمنا من خلالها ، على تقسيم فترات اليوم والليلة ، إلى أجزاء صغيرة جدا ، صرنا مطالبين باستغلال الوقت بشكل يفوق طاقتنا ، نظرا لأن المهام المطلوبة كثيرة جدا ، والسرعة في تأديتها أصبحت رمز من رموز العصر الراهن !
كنت أفكر دائما في حال الأمم السابقة ، كيف كانت تسير حياتهم ، مع تلك الكميات الهائلة من المعرفة الخاطئة ، أو الناقصة في نظرنا ؟؟ ولما قرأت ما ذكره " وينجشتاين " لعلي وجدت تفسيرا مقنعا لحد ما ، أن كل أمة تعيش وفقا للمعرفة التي وصلت إليها ، وصاغت تلك المعرفة بنية أفعالهم وأفكارهم وحضارتهم ، وبالتالي كانت المؤشر الموثوق الذي يقودهم إلى الحقيقة .
إن من يتبادر في أذهانهم المقارنة الخاطفة السريعة بين العصور السابقة وعصرنا اليوم ، تلك المقارنة التي تبرق في الذهن كومضة ، دون تفكير عميق ، أو تحليل ،أو قراءات تاريخية ، ويظن من خلالها، ومن خلال ما يشهده العصر الحالي من نهضة الكترونية وعمرانية ووسائل اتصال ومواصلات رهيبة وغزو للفضاء وتقنية طبية عالية ، إمكانية القول أن المعرفة التي نملكها اليوم هي الأفضل والأولى من تلك المعرفة التي كانت بأيدي -على سبيل المثال - البابليون أو الفراعنة. الذين يتبادر في أذهانهم مثل هذا التصور ، يغيب عنهم أمر مهم جدا ، أننا نقيس الفروق دائما وفق نظرتنا للمعرفة ( المعرفة الذاتية ) ، فنحن محاصرون بدائرة معارفنا تجاه الأمور والأشياء من حولنا ، وقد نعمي أعيننا عن الآفات التي سببتها المعرفة الجديدة ، والتي لم يكن بمقدور إنسان من العصور القديمة أن يتصورها على الإطلاق ، فالتقدم الطبي الذي نعيشه اليوم ، والعمليات الجراحية الدقيقة التي أصبحنا قادرين على القيام بها بنجاح ، وبشكل متكرر ومذهل ، رافق ذلك ، جنبا إلى جنب ، انتشار وظهور أمراض فتاكة وقاتله ، وتدهور كبير وملحوظ ، في صحة الإنسان الجسدية والنفسية والذهنية ، نتيجة لمخلفات المعرفة الصناعية ، والتلوث البيئي والغذائي المنتشر بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري . والتطور في مجال الإلكترونيات ، والتقنية ووسائل الاتصال العالمية ، رافقه انتشار واسع ورهيب للبطالة في أرجاء العالم وتراجع رهيب في استخدام الإنسان لقدراته العقلية في الحساب والتفكير والحفظ ، وكذلك في استخدام المهارات الجسدية كالرسم والكتابة والنحت وفنون القتال والفروسية . كما أن زيادة الإنتاج الزراعي الذي وصلنا إليه اليوم بصورة لم يسبق لها مثيل ، كان يسير بخط متوازي مع جفاف الأنهار والمياه الجوفية ، وبالتالي انتشار المجاعات والموت في المناطق الفقيرة والمنسية !
لست هنا بصدد المقارنة ، إنما كنت حريص للوقوف مع تلك المقارنات السريعة التي دائما مانحكم من خلالها على العصور السابقة ، ونحاول من خلالها تجيير الذكاء والتطور المعرفي والعلمي لصالحنا ، وإطلاق مسميات كالبدائية والتقليدية والعصر الحجري على العصور السابقة .
قد يقول قائل ، أننا نعترف وندين في الكثير مما وصلنا إليه اليوم ، للأسلاف ، بل ونحن نوثق لهم ذلك ، والأكثر من ذلك ، أننا نعتبر كثير من علماؤهم ، رموزا للمعرفة التي نعيش شكل جديد من أشكالها المختلفة عبر الزمن ، وهذا صحيح ، نحن نفعل ذلك ، ونخلد أسماء تاريخية ساهمت في تقصي المعرفة عبر التاريخ ، ونسجل هذا في التاريخ ، ونعلمه لأبنائنا ، و نتناقل ذلك عبر الأجيال ، لكننا نفعل ذلك دائما و نحن نضع تصور نهائي لا يقبل المراجعة ، أن المعرفة التي وصلنا إليها اليوم ، تتصف بالكمال أو الفوقية على تلك المعرفة في زمانهم ، وأن دور ذلك التاريخ يقتصر على أنه مفتاح ساعدنا في الانطلاق لما نحن عليه اليوم من حقائق نعتقد أنها ضخمة ومطلقة ، نحن نذكر علماء العصور الماضية بطريقة تظهر وكأننا نصدر حكما ضمنيا ، بأن الذي وصلنا إليه اليوم ، هو الحقيقة التي حاول أولئك السابقين الوصول إليها !
أعود وأقول أن الإنسان حصاد معارفه ، وهو يبني حياته ، ورتمه اليومي بناء على ما يعتقد أنه اكتشفه وتعلمه ، ونحن من خلال هذه الفكرة كأننا ندور في حلقة مفرغة ، إذ أن تقييم المعرفة بناء على الخيارين ( الموضوعية / الذاتية ) يجعلنا ندخل في دوامة من الجدل العلمي الفلسفي في الوقت ذاته ، هناك الكثير من العلماء تبنوا مناهج وطرق لتحصيل المعرفة وإثباتها ، جاء علماء آخرون ليثبتوا أن تلك الطرق والمناهج غير دقيقة ، بل تصل أحيانا إلى التضليل والخطأ كما حصل في منهج الاستقراء والاستدلال العقلي و المنطقي .
وأحتاج هنا إلى بعض التفصيل ، بخصوص منهج الاستقراء والمنطق ، كل على حده .
فكرة الاستقراء ، تنطلق من الملاحظة لظاهرة ما ، وتتبع معالمها ومن ثم رصد كل هذه المعالم ، للخروج بنتيجة نهائية تعد ( فرضية ) يمكن عن طريق إثباتها التوصل إلى ( نظرية ). كثير من المعارف والنظريات كانت نتيجة هذا المصدر والمنهج في التوصل إليها . إن نقد منهج الاستقراء يعد تشكيك في الكثير من المعارف والنظريات التي أدى إليها هذا المنهج . أبرز من وجه النقد للاستقراء هو الفيلسوف ( كارل بوبر ) الذي اعتبر أنه لا يوجد مصدر واحد للمعرفة ، والذي كان يفترض أن يتم اختبار الحقائق نفسها ، دون النظر للمصدر . اعتقد ( بوبر ) أن الملاحظة تسعى خلف الإثبات ، وتتجاهل تماما النفي ، فملاحقة أي ظاهرة بالملاحظة ، تجعلنا أمام أي ظاهرة نقف بين حالتين ، أن نرى في الظاهرة ما نريد أن نراه ، أو - ربما - لا نرى فيها ما نريد أن نراه ، وفي كلتا الحالتين ، يغيب الاختبار الحقيقي للظاهرة . وهو قدرتنا على نفي الظاهرة من الأساس !
يستدل المؤيدون لرأي ( بوبر ) في الاستقراء ، بقصة رمزية للفيلسوف البريطاني ( برنارد رسل ) تقول القصة (( إنه كان هناك ديك لرجل مزارع ، وكان المزارع يأتي كل يوم بالطعام الكثير إلى الديك ، وتكرر الأمر ، في كل يوم يأتي المزارع بالطعام الشهي للديك ، من هذه الملاحظة المتكررة تطورت نظرية عند الديك بأن صاحب المزرعة يحبه ، ووقر في نفس الديك أن حب المزارع قانونا ثابتا . وفي أحد الأيام جاء المزارع ومعه سكين حادة فذبح الديك . كان استقراء الديك هنا خاطئا !)) ( التكريتي ، 2005 ، ص 67).
وكما يقول الشاعر العربي :
إذا رأيت أنياب الليث بارزة ،،،،، فلا تظنن أن الليث يبتسم !
يتبع ..