.
تمر الكتابة الأدبية في الوطن العربي اليوم ، بأقسى الفترات وأكثرها انحطاطا فكريا وفنيا ، وذلك يتعلق - في رأيي الخاص - بجميع فنون الأدب ، عدا فن الرواية والقصة ، فهما منذ فترة طويلة ، يتقدمان بشكل و رتم لا بأس به .
الأسباب المتعلقة لهذا الانهيار الأدبي - لو جاز التعبير - كثيرة جدا ، لا تتعلق بقضايا أدبية وثقافية فقط ، بل تتعدى إلى ظواهر اجتماعية ومادية معاصرة ، و التي يعزو إليها الشاعر والأديب البغدادي ( شوقي بغدادي ) أسباب تعتيم الشعر – على سبيل المثال - وغموضه المبالغ فيه ، ناهيك عن رداءته في الآونة الأخيرة ، فيقول :
( "يعود الغموض والتعتيم إلى عوامل عدة: أهمها الاغتراب ، والاستلاب والقطيعة بين البشر في المجتمعات الحديثة، ، حتى غدت كتاباته منولوجات خاصة جداً، وغامضة جداَ، أشبه ما تكون بالهلوسات والهذيانات التي تتوالى على مخيلة إنسان وحيد ، وهو مستسلم لأحلام اليقظة ، يائس من التواصل مع أخوته البشر.) .انتهى كلامه
إن تتبع مثل هذه الأسباب ، وإحصائها ، يحتاج إلى جهد علمي كبير ، ووقت طويل ، لا يمكن لمثل هذه المقالة المقتضبة أن تحيط بهما ، لكنني سأطرح وجهة نظري حول هذا الموضوع ، وسأتطرق لبعض النقاط التي أرى أنها جوهرية بخصوصه .
لعل من المهم ذكره ، إذا كان لفنون الأدب العربي زعيم ، فهو ولاشك ( الشعر ) ، حيث أن الشعر كما يقال ديوان العرب وعلمهم الذي لم يكونوا يملكون علما غيره ، والشعر العربي كما هو معلوم مر بمراحل عديدة وطويلة ، كانت لكل مرحلة ، سماتها وظواهرها التي تميزها ، والتي نتج عنها إفرازات وتأثيرات على باقي فنون الأدب آنذاك .
المرحلة الشعرية اليوم ، تمتاز بأشد الإفرازات تأثيرا على الكتابة الأدبية بكافة أشكالها ، عندما جاءت حداثة الشعر في بدايات العصر الحديث ، ترافق ذلك مع أساليب في غاية الروعة ، أنقذت الشعر من مرحلة سابقة ، غرقت فيه الشعرية بالزخرفة اللفظية ، والسجع المتكلف ، والتنقيب عن الألفاظ على حساب المعنى ، وعسف الوزن والقافية للصور الجمالية أو الوصف ، كل ذلك ، جاء الشعر الحديث ، ( الحر) منه على وجه الخصوص ، من أجل القضاء عليه . لكن هذا لم يستمر طويلا ، إذ سرعان ما أحدث هذا مساحة لكثير من غير الشعراء أن يمتهنوا بالشعر ، فالطريقة الجديدة ، الحرة والسهلة ، والتي لا تلتزم بوزن أو قافية ، أثارت شهية الكثير للمشاركة ، وأزاحت عن قلوبهم رهبة الشعر القديم ، المرتبط بقوانينه الأكثر صرامة ، وهنا حدث الخلل ، الذي تحول فيما بعد ، إلى ظاهرة منتشرة ، يكتب أحدهم أي شيء ، وبأي طريقة ، ثم يسميه شعرا حرا !!
للأسف الشديد ، لأسباب غير واضحة ومعلومة ، لم تصل فكرة حداثة الشعر بالشكل المطلوب ، أو بالشكل الذي أراده زعماء هذا التيار ، بل على العكس ، الذي انتشر عنها ، بين قائمة من الهواة لا يعرفون عن حداثة الشعر ( الحر ) إلا توظيف السريالي والرمزي والغرائبي والمخيالي ، دون الإلمام بأبسط قواعد ومبادئ هذا الفن ، الذي ظنوه تزويقاً لفظياً ، أو شكلاً فضفاضاً وحسب. حيث أفرزت هذه المرحلة الاهتمام بمفردة ( حر ) دون الالتفات لمفردة ( شعر ) ، وصار هناك نوع من التناسي لمبدأ أساسي ، أن القصيدة عندما تكون حرة ، هذا لا يعني عدم الاكتراث بشعريتها !!
!! وصدق الشاعر ( نزار قباني ) حين قال :
شـعراء هذا اليوم جنس ثالث
فالقول فوضى، والكلام ضباب
(نزار قباني)
يقول الشاعر إبراهيم اليوسف عن مفهومه للغموض في تجربته الشعرية :
"عموماً، إذا كنت ضد المباشرة والوضوح المسرف في الشعر، فإنني أيضاً ضد التعمية، والاستغلاق، والهذيان، وقصيدة الكمبيوتر، والسريلة الببغاوية،" .. ويضيف " ولكن يلجأ بعض الذين يكتبون الشعر إلى غموض الشعر كهذا من أجل الإفلات من الحكم النقدي، فالشاعر يكتب شيئاً غير قابل للفهم، ويدعمه بوهم العمق والفرادة، والتفرد، والتطور، والتجديد …إلى ما هنالك. " إنتهى كلامه .
لقد أعطى الغموض والتعتيم ، وهما أبرز إفرازات الحداثة بوجه الخصوص ، تبريراً للكثير من الكتابات الرديئة اليوم ، تلك الكتابات المصطنعة المنغلقة ، التي لا تجمع فكرة منسجمة، ولا رؤية واضحة . وقد أخذ مروجوها ينعتون القارئ بعدم الفهم ، وبالجهل ، وباختراق الخصوصية والتجاوز ، ويقولون بأن مهماتهم ككتاب جدد وأحرار ، أن يخلقوا القارئ الجديد الحر أيضاً.
يؤكد هذه الفكرة الشاعر ( لقمان ديركي) بالقول:
" الكارثة أن الشعراء الذين يكتبون هذا الهذيان يستخدمون الجملة التي قالها الشاعر أبو تمام " لماذا لا تفهم ما يقال؟ ويطلبون من القارئ أن يفهم كلام الشاعر وما يرمز إليه، وهذا باعتقادي هو ضعف في الشعر المكتوب، وليس في فهم القارئ، مع الأسف ما يكتب ما هو إلا كتابات مستسهلة للكتابة، ومستغفلة للقارئ، لأنها تحكم مسبقاً أنه لا يفهم الشعر، أنا من أنصار الشعر المفهوم، ومع الحالة الواضحة، وبالنسبة لي الشعر في أكثر حالاته غموضاً لابد أن يكون مفهوماً، والغموض ما هو إلا حالة من السحر ، تحيط بقارئ النص الشعري فقط، أما أن نقرأ قصيدة بأكملها لا نفهم منها شيئاً، فهذا أمر مرفوض، وبعيد كل البعد عن الفن الشعري، هنا يحق لنا الاستفهام فيما إذا كان الشاعر ذاته يفهم القصيدة التي كتبها؟ هل كان في حالة من الوعي الكامل أثناء كتابته للقصيدة أم في حالة من الهذيان والتشتت الفكري، لست مع هكذا تجارب شعرية، بل مع الشعر الذي يخاطب حساسية القارئ بشكل مباشر، ولا يعتمد على اللغة، بل يتكئ على موضوعات الشعر الأساسية، والتي هي موضوعات حسية وروحية ". انتهى كلامه .
ولا يتطرف الشاعر والكاتب (ممدوح عدوان) حين يقول :
" أن هذا الكم الهائل الموجود في الأسواق ليس شعراً غامضاً بقدر ما هو شعر رديء، وقد ساعدت التقنيات الحديثة في سهولة نشره، وبالتالي تشكله كظاهرة، هناك كم من الشعر الرديء، لكنه ليس بالضرورة هو الشعر الحقيقي، ونحن نعيش وسط ظاهرة طغيان الشعر الرديء بسبب توافر وسائل الإعلام التي تريد أن تغطي مساحة ثقافية خجلاً .. " انتهى كلامه .
هذا الأمر، وهذه الإفرازات غير المتوقعة ، والسلبية ، انعكست على باقي الأنواع من الكتابات ، فسرعان ما أفرزت الحداثة ، شيئا شبيها بالحكم المسبق بجمالية أي نص يكتب !! وشيوع التداعيات التي صارت محوراً أساسياً في الكتابة !! ، وبالتالي ، ظن الكثير أن الكتابة لم تعد إلا بعض ( الطلاسم ) التي ليس من الضروري أن يفهمها أحد . حتى لو كان الكاتب نفسه !
إن المرض الفيروسي عندما لا يقاوم ينتشر ، ومن ثم يبدأ بالانتقال والعدوى ، وهو في كل حالة يتمكن فيها من شخص جديد ، ليس بالضرورة أن يبقى على تركيبته الأولى ، بل هو يتشكل ويتطور ، وأحيانا يصبح أقوى ، وفي أحيان يكون أضعف ، غير أنه في كل الحالات ، يبقى ممارسا لوظيفته الرئيسة ، وهي الهدم والمرض .
وهذا ما حل بالكتابة اليوم ، فالفوضى التي حلت بالشعر الحديث ، وتفاقمت في النصوص النثرية ، بدأت تنتقل من فن إلى فن ، وفي كل انتقال ، تأخذ هذه الفوضى أشكال مختلفة عن الحالة الأولى التي بدأتها في الشعر الحر . المقالات – على سبيل المثال - صارت تنحى منحا جديدا ، وأخذت تغرق في الإسفاف ، ويتم حشوها بالتداعيات بطريقة فضة ، وتحولت من الرتم الأدبي الذي كان يشكل روح هويتها ، وعصب قوامها ، لتصبح رمز من رموز السخرية ، والابتذال ، واستخدام العامية بإسراف ، وتعاطي أتفه الأفكار وأكثرها سطحية !
في الخواطر – على سبيل المثال - حصل هذا الشيء بشكل أكثر بروزا ، ولعل السبب في ذلك ، أن الخاطرة ، كانت أكثر الفنون غموضا ، من حيث الدلالة والتعريف ، ومن حيث المفهوم والأسلوب . وأصبحت الملعب الواسع الذي يمكن للهواة أن يصولوا ويجولوا فيه كما يشاءون ، لأن اللبس الذي يدور في الأساس حول الخاطرة ، جعل القراء لا يستطيعون الجزم ، هل الخواطر التي تكتب اليوم ، تستحق أن تسمى ( خاطرة ) أصلا !؟
كان أول عمليات التشويه التي حصلت ، إسقاط أسوأ ما حل في الشعر (الحر)على الخاطرة ، وكم كان الأمر سيكون رائعا ، لو أن عملية الإسقاط هذه ، أخذت الملامح الجيدة في الشعر ( الحر) ، من الأدوات الجمالية ، و الغموض المقنن ، المستفز للقارئ ، و الاهتمام بالمعنى والصور ، التي يفجرها الشعر الحديث بأساليب وصفية مبتكرة ، وعميقة ، لكانت النتائج في ظني مذهلة ، لكن الأمر ، مضى على العكس تماما ، هرب أولئك من سطوة الشعر ، وجبروته ، وحاجته للكثير من الشاعرية ، و الانفعال الوجداني والفكري ، وقاموا بتقليد أساليب مراوغة تنسب للحداثة ، وتولدت لدينا نصوص نثرية غريبة تماما ، تفتقد للعقلانية وتحاكي اللغة الشعرية الرمزية !! وكأننا أمام نصوص من جنس ثالث على حد قول نزار قباني !
وفي ظل هذا الضياع الأدبي ، والانحسار الثقافي ، والتلكؤ النقدي ، تبرز حالة رهيبة ومرهقة ، من المجاملات الرخيصة ، وتفشي النفاق النقدي ، و شعرنة الرخيص ، وهبوط الذائقة ، وربما انعدامها أحيانا . كذلك تقل مساحة النقد مع الوقت بدل أن تزيد ، يقول الناقد الكبير (( عبدالله الغذامي، النقد الثقافي )) : " مشكلتنا أمام ( النص ) أننا استسلمنا لقاعدة نقدية ( بلاغية ) ذهبية تمنعنا من النظر في عيوب ( النص ) لأنها تحرم علينا مساءلة ( الكاتب ) عن أفكاره ، وتحدد لنا مجال الرؤية في ماهو جميل وبلاغي ، وليس لنا النظر في العيب والخطل الفكري ، والرخصة الوحيدة هي في النظر إلى العيوب الشكلية في النص أو في عيوب التعبير اللفظي " منقول بتصرف .
الأقلام المميزة اليوم ، تحت هذا الوضع الراهن ، أمست مهمتها الرئيسة البحث عن قراء مميزين ، والذين لديهم الكثير ليقولوه ، أو يكتبوه ، باتوا أكثر الناس عزلة ، بينما الذين يجدر بهم الاستماع والإنصات ، صاروا الأكثر ثرثرة !