رد: [ .. بشأن الشأن العظيم.. ] وبعثت الرسالة الثالة :
الحمد لله يا أميرتي , أنا بخير.. وأمي..وأخوتي..
الآن خالاتي وجارتنا ونحن نجلس في دائرة حول القهوة والحلوى..
نتبادل أحاديث جميلة..وتفاجئنا الضحكات..نصنعها وتصنعنا...
نعيش اللحظة ولا يدركنا خوف الغد..
وننام معاً في غرفة واحدة , أصرّ أنا على ذلك..
لأن نوماً لا يطرقني إلا حين أسمع تنفساً منتظماً لأمي يحملني على التصديق بأنها نامت وأنها لا تنتحب..
أتصدقين أنها هي التي أفرغت خزانات والدي في اليوم الأول؟!...
حاولتَ أن تجعلني خارج الحجرة لكي تختلي بذكريات والدي..
إلا أنني أصريت على تنظيف المكان بينما هي تفرغ الخزانات..
كنت أدعي الإنهماك في ترتيب الأغطية وأنا أسمع شهقاتها المكتومة وهي تقبل عنق ثياب والدي.. تشتم صدر معاطفه..وتقول :
" مع السلامة ياروحي..مع السلامة يا عمري"..
وكنت أخاف حين أسمعها تقول هذا..لأنني خشيت أنها ستودع روحها وعمرها أيضاً..
إلا أنني كنت أدعي وأنا أغالب الدمع أن لا ترحل هي الأخرى..
يكفيني فقد واحد..
وعسى أن لا يبتليني الله بفقد آخر..
حينما كان والدي مريضاً كان تبكي في ندم.. لأن مكالمتها الأخيرة قال لها فيها " مع السلامة يا عيوني"..وهي لم ترد عليه..
كانت نادمة لأنها كان في مقدورها أن ترد له كلمة جميلة بينما لم تفعل..
وحينما زرناه وهو في غيبوبته .. إنكبت تقبل قدمية وهي ترد عليه " مع السلامة يا عيوني"
وقتها..كنت متيقنه من أن هذه المرة الأخيرة التي سترى فيها والدي..
وأنها ألقت كلمتها لتخلي ذمتها وتبرئ ساحتها من عقدة الذنب طوال عمرها..
في خزانتي..الكيس البلاستيكي الكبير الذي يحتضن ثياب الوسيم..
وأعلى خزانة الحقائب يتربع صندوق فيه هاتفه, محفظة نقوده, خنجره المرصع بالكريستال, ساعة والده التي كان يحتفظ بها بعد وفاته وقد وضعت الآن بجانبها ساعته هو..كل شيء يعج برائحته التي أحبها وأحب معناها لي حين يطاردني قبل الخروج إلى جامعتي يسألني إن كنت أخذت نقودي وجوالي أو نسيت البالطو خاصتي..
كان يهتم بي ولا يزال وهو في قرب الرحمن.. هانئاً بإذن الله..
حين الصلاة عليه في عصر الخميس..
كان خالي يذكر لنا إمتلاء المسجد بالمصلين..الذاكرين محاسنه وصلة رحمه بأقرباءه المحسنين والمسيئين منهم..
وأن أحد أصحاب والدي كان من الصعب إبعاد جسده المنكب على القبر.. يلثم تراب الحبيب الذي رافقه منذ الطفوله..والذي ساعده على الخروج من جحيم الضياع والعودة إلى جادة الصواب بعد عون الله ومساعدته له..
ذلك الصاحب كان كثيراً ما يتصل بنا..يخبر أمي أنه وجد الوسائل لنقله..وأن أشهر الأطباء يتابعونه..وأنه ما فارقه لحظة..
ماكان يعلم أن الحبيب يسلّم الروح إلى بارئها..
وماكنّا نحن نعلم..
سأضل زمناً أخبرك أنني أشتاق إليه..
وأنني أهرب من فكرة تخيل العيد بدونه..وعودته قبيل المغرب في رمضان يحمل أطعمة تلومه لأجلها أمي على تبذيره..بينما كلّ همه هو رؤية البسمة على صغاره وهم يلتقفون الأشياء منه بغبطه..
نحن فقط شغله الشاغل..الكلّ يذكر برّه بنا..
وأن حبه لنا كان مضرب المثل.. وحنانه علينا كالحمّرة على أولاده..ذلك ماقاله لنا خاله في العزاء..وكان سبباً لبكائنا من جديد..
ومع هذه الذكرى...والتي يجرحني كثيراً أن أقولها بصيغة (كـان)..
أعيش الآن أنظر للحياة بعين صافية..
وروح مشرقة ترى أن في سعادة أسرتي هي السعادة الحقيقية..
وأن التربية الصارمة التي كان يربيني لها والدي وتعليمي لأصول الرجولة والمفاخر وتحمّل المسؤوليه قد حان وقت جني ثماره..
وأنني أشهد الله عزّ وجل إن منحني القوة أن أمضي عمري في إسعاد أسرتي إبتداء بأمي ووصولاً للياسمين ذات الستة عشر شهراً والتي لم تنطق ( بابا ) بعد..
أدعي لي يا أميرتي بالبقاء حية وصحيحة وقادرة على منح أخوتي ما كان والدي يمنحهم إياه..
وأدعي لأمي بالرضى والسلوان..
لأنها هي وحدها التي مهما فعلت..فلن أستطيع الوصول إلى أقل القليل من الأشياء التي يفعلها والدي لها..
سأحاول أن لا أغضبها.. وأن لا أجعل ظنّها بتربيتي يخيب أبداً..
وأن ترفع رأسها بي عالياً.. لتقول أن عبدالله ربّى بنتاً عن ألف رجل..
عسى الله أن لايحرمني منهم ولا منك يا أميرتي ..
وأن أمنحكم أجمل ما بيدي.. حب وحضور وعناية وسلوى..
وبالنسبة للجامعة حصلت على إجازة للغياب هذا الإسبوع..
ومعلماتي حادثنني بالهاتف.. مسلمات ومسيحيات.. عربيات وأجنبيات..
كنّ حزينات لخسارتي وداعيات لي بالقوة.. ____________________________________ ,
يارب اشفي أبوي , يارب .. |