ولو نظرنا للموضوع من زاوية دينية أو شرعية لقلنا أنه ليس هناك تناقض فالحياة التي آخرها الموت , أو كما قال الشاعر : " هي الولود وغير الموت لم تلد " لا تستحق كل ذلك الحزن الذي يحاصرنا حيثما ولينا وجوهنا أن " نظرية العبور " التي أشارت إليها العبارة النبوية الخالدة التي تقول : " كن في الدنيا كأنك عابر سبيل " هي التي تمنح النفس البشرية كل معاني الطمأنينة والهدوء والاستقرار الحسي والنفسي والمعنوي , وهي التي تلّخص في تقديري المنهج المثالي في التعامل مع معطيات الحياة .
" نظرية العبور " هذه التي منّهجها لنا نبينا الكريم تكاد تكون معطلة إن لم تكن معطلة من الأساس لأنها تواجه نظرية مضادة , وهي "نظرية الزينة " الزينة التي وردت في قوله عز وجل { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْـخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْـحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْـمَآبِ }
ولابن القيم كلام نفيس في هذا الباب حيث يشير ببلاغة بروفسور نفساني كيف أن النفس البشرية تتأثر سماعياً بكلام الخطب والمواعظ والمحاضرات الدينية التي تُرّغب في الجنة وتحذر من النار , ولكنها تفقد ذلك التأثر بصرياً بسبب واقعية المحسوسات المادية التي نراها ونعايشها لحظة بلحظة , الأمر الذي يصعّب مهمة ما يعرف بالميتافيزيقا أو علم الماورائيات !
أكاد أجزم أن سبب مشاكلنا وهمومنا المتواصلة هو ذلك التعلّق بالدنيا , ورؤية الأشياء كل الأشياء من خلال منظارها المتناقض ! ولذلك نجد أن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين والذين تعلقوا بالله عز وجل في كل حركاتهم وسكناتهم قد هانت عليهم الدنيا ومصائبها وآلامها لأنهم تعاملوا مع " قدّر الله وما شاء فعل , وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن " بعملية وتسليم تامين , ولذلك ارتاحوا تماماً . أحياناً كثيرة أشك في إيماننا المصاب بشيء من الاعتراض أو اليأس والقنوط , والجزع أو لم يقل أعز من قائل { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً , إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً , وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا } هذا الإنسان بصورة عامة بمختلف ميوله ونزعاته وإيديولوجيته , ولكن هناك استثناء وهم المؤمنين الذين قال فيه رب العالمين في تكملة الآية السابقة إلاّ المصلين , وليس الاستثناء يشمل كل المصلين , أنه خصيصاً للمصلين المحافظين والمداومين على صلاتهم , وربما هذا يقودنا إلى مزية من مزايا هذا الركن العظيم , وهو الإيمان والتسليم التامين قولاً وفعلاً بالقدر خيره وشره , وتالياً الاطمئنان والهدوء النفسي الذي ننشده جميعاً في حياتنا .